ملأت صور وفيدويوهات الأسير منصور الشحاتيت والذي تم إطلاق سراحه قبل عدة أيام بعد قضائه ما يقارب سبعة عشر عاما في سجون الاحتلال مواقع السوشال ميديا ، وتبعتها كلمات المعلقين ممزوجة بالألم والقهر بعد ما رأوا الحالة الصحية الصعبة -سواء الجسدية أوالنفسية- التي وصل إليها الأسير، حيث يظهر في أحد الفيديوهات باكيا ويبدو كلامه غير مترابط، وتبلغ التقارير الإخبارية عن عدم تعرفه على والديه حين التقى بهما كما الكثير من ذويه في مشهد أبكى من كان باستقباله. وضع نفسي صعب خرج به الأسير الشحاتيت من السجن، لكنه ليس الأول في ذلك كما لن يكون الأخير، فهو وضع نتوقعه كثيرًا لدى المعتقلين السياسيين السابقين الذين تعرضوا للتعذيب الجسدي والنفسي.
أفاد كابلان وسادوك (2003) بأن "التعذيب يختلف عن الأنواع الأخرى للصدمة لأنه متعمد ومصدره البشر". كشفت دراسات كابلان وسادوك عن انتشار 36٪ من اضطراب ما بعد الصدمة بين الناجين من التعذيب، بالإضافة إلى معدلات عالية جدا من الاكتئاب والقلق، ومن بين الشكاوى النفسية الشائعة الأخرى، الأعراض جسدية الشكل نفسية المنشأ، وأعراض الوسواس القهري، والعدوان، والرهاب، وجنون العظمة، ونوبات الذهان.
يهدف التعذيب إلى إضعاف ادراك الأسرى وقدرتهم على إجراء حجج منطقية ضد المحققين، وزلزلة الأفكار والمعتقدات التي يؤمنون بها ويعتنقونها. في إحدى الدراسات تم وضع 22 طالبًا جامعيًا في مقصورات صغيرة عازلة للصوت، يرتدون نظارات شفافة وقفازات سميكة ووسادة على شكل حرف U حول الرأس. ترك معظم الأشخاص الدراسة في غضون يومين، كما اختبر جميعهم بعض الهلوسات و تدهورت قدرتهم على التفكير بشكل منهجي؛ كان هؤلاء الأشخاص يتوقون للتفاعل مع غيرهم حتى لو كان ذلك مع المحققين. في حين يكون التعذيب المؤسسي سهل الإخفاء، إلا أنه مصمم لانتهاك الاحتياجات النفسية وإحداث ضرر عميق للبنى النفسية وكسر لأسس الوظائف العقلية الطبيعية.
يمكن للتعذيب أن يغزو ويدمر إيمان الأشخاص باستقلاليتهم كأفراد، ويدمر افتراضاتهم المتعلقة بالخصوصية والذاتية. يشمل التعذيب الاستخدام المتعمد للضغوط الشديدة كالحرمان من النوم، والألم الجسدي الشديد، والتسبب في الألم النفسي مثل الخوف من الألم أو الموت، والارتباك بسبب التهديدات المتلاحقة، وانتهاك الأعراف الاجتماعية أو الجنسية والحبس الانفرادي الطويل. غالبًا ما تستخدم تقنيات مثل تغطية الرأس لغاية الإرباك الحسي، والعري والوقوف القسريين، والاستحمام بالماء البارد، وتعصيب العينين، والترهيب بالكلاب العسكرية، وحجب الطعام والماء، والرشق بالبول. في بعض الأحيان، يتخلل هذه المعاملة المهينة -عن قصد- لطف مصطنع ومعاملة جيدة زائفة واطراء مخصص لغايات تضليل الشخص وجعل شخصيته مفككة وفاقدة للمصداقية.
عندما يتحكم السجان في الاحتياجات الفسيولوجية للشخص المُعذَّب ويُسمح له فقط بتلبيتها بطريقة مهينة ومذلة للذات، وعندما يتم استفزاز مشاعر الخزي وقلة القيمة والتبعية من قبل شخص خارجي قاس ومتفوق، يمكن أن يؤدي ذلك إلى تراجع نفسي عند الأسير يهدف الى كسر إرادته على المقاومة.
في تقييمه لضحايا التعذيب وغيره من الانتهاكات أثناء حروب البلقان، أظهر باسوغلو أن التعذيب النفسي كان سيئًا مثل التعذيب الجسدي، وتسبب في ارتفاع معدلات الاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة. كان الأمر الأكثر أهمية هو درجة شعور الضحية بفقدانها للسيطرة. غالبًا ما يستمر ويتفاقم فقدان السيطرة على حياة الفرد وجسده الناجم عن التعذيب بسبب عدم تصديق العديد من الأشخاص الذين يعانون من التعذيب عند محاولتهم التعبير عما مروا به، خاصةً إذا كانوا غير قادرين على إظهار ندوب أو أي دليل "مادي" آخر على تجربة ألمهم التي مروا بها. يمكن أن يغير التعذيب أيضًا نمط الارتباط بالواقع والشعور بالذات. حتى بعد فترة طويلة من توقف التعذيب الفعلي، يشعر بعض ضحايا التعذيب بالانعزال، وعدم القدرة على التواصل أو الارتباط أو التعاطف مع الآخرين. قد ينتج التعذيب عن تدمير ثقتهم وتعطيل أقرب علاقاتهم وشبكة دعمهم مدى الحياة.
كما رأينا ، تُعزى مجموعة متنوعة من الاختلالات النفسية إلى التعذيب، كاضطراب ما بعد الصدمة، والذهان، والاكتئاب والقلق. من مشاهداتي الإكلينيكية، أرى أنه يمكن أن تتمثل تلك الاختلالات الناجمة عن التعذيب في نطاق أوسع، من أعراض أقل وضوحا كالانفعالات العاطفية، وضعف التواصل الاجتماعي، والنوبات الذهانية البسيطة، والضعف الجنسي، وتذكر الأحداث الصادمة التي تتطفل على شكل كوابيس وذكريات مؤلمة، إلى أعراض أكثر حدة مثل اضطرابات الذاكرة، والهلوسة، وعدم القدرة على الحفاظ على علاقات طويلة الأمد أو حتى مجرد علاقة حميمة، والتغيرات المستمرة في الإدراك والتأقلم. آمل أن تكون ملاحظاتي هي مؤشر أولي لدراسة انتشار الاضطراب النفسي بين الأسرى الفلسطينيين السابقين، مقارنة بغيرهم من ضحايا الصدمات ومقارنة بالأسرى السابقين في سياقات الصراع الأخرى.
إن الهالة البطولية التي يتم إحاطة الأسير بها لا تتعارض مع أهمية لجوئه للعلاج في حال حاجته له، بل إن في التعرف على الحاجة إلى العلاج والاعتراف بها والتوجه لتلبيتها قوة إضافية تضاف إلى قوته في مقاومة المحتل والانتماء للأرض والوطن.