لقد تسببت جائحة كوفيد 19 بتغييرات جذرية في حياتنا اليومية وألحقت بنا ألوانا من الخسائر؛ فمن الناحية الإقتصادية أدى الوباء إلى ارتفاع معدلات البطالة والخوف من الركود الاقتصادي، وكذلك من الناحية الصحية فقد أدت المخاوف من الإصابة بالفيروس إلى زيادة المخاطر الصحية للفئات الأكثر ضعفا كالمسنين وذوي الأمراض المزمنة وأولئك الذين يواجهون قدرا أكبر من الإجحاف الصحي والاقتصادي والاجتماعي، كما أن هناك ضررا ثانويا لحق بالأشخاص الذين يحتاجون إلى رعاية لكنهم يتجنبون المستشفيات خوفا من التقاط الفيروس، أو أولئك الذين لا يستطيعون الوصول إلى الطبيب بسهولة بسبب زيادة الطلب نتيجة للوباء، بالإضافة إلى ما سبق فقد تزامن مع التبعات الصحية الجسدية انتشار الاضطرابات النفسية كالقلق والإكتئاب.
أما اجتماعيا فعلى الرغم من توافر الاتصالات الافتراضية إلا أن هناك شعورا بالعزلة والوحدة نتج عن عدم القدرة على التواصل مع العائلة والأصدقاء في نفس المساحة المادية، كما أننا تخلينا عن الكثير من التقاليد والطقوس الجمعية كالتخرج والجنازات والأعراس مما أدى إلى انحسار اجتماعي لم نكن نتخيله. أتساءل كلما التقيت بعزيز: هل سنمد يدنا للمصافحة يوما ما؟
وفي ظل الجائحة، انتشرت عبارة "خليك بالبيت" كناية عن أن البيت هو مصدر الأمان من الفيروس، إلا أنه لم يكن كذلك للبعض، فقد ارتفعت معدلات العنف المنزلي والمشاكل الأسرية كما تشير الدراسات. ومن ناحية أخرى، وبالرغم من الوعي بأهمية التباعد الجسدي والالتزام في البيوت إلا أن بعض الأفراد بات يشعر أنه يفتقد إلى حريته الشخصية وبالتالي تسلل إليه شعور أنه مسجون في منزله. تسبب الوباء كذلك في أن علّق كثيرون خططهم وآمالهم المستقبلية فكان فقدان الأمل مؤلما بشكل استثنائي. وكنتيجة موجعة للإصابة بذلك الفيروس فقد كانت الوفاة من نصيب أحد أفراد كثير من الأسر أو الأصدقاء، كما قد فقدنا زملاء لنا في القطاع الطبي، وفقدنا كذلك طقوس الفقدان!
أما بالنسبة للتعليم فقد شكّل التعليم عن بعد ضغطا إضافيا سواء على الطلاب أو الأهالي أو الكادر التعليمي، فأصبحت المخاوف بشأن تأثير ذلك على أدائهم المستقبلي وعدم اليقين بشأن موعد وكيفية إعادة فتح المدارس همّا يؤرق الجميع.
بعد كل ما تمت الإشارة إليه فإنه ليس من المستغرب أن نختبر العديد من المشاعر الصعبة التى تساورنا ونحن نستقبل عاما جديدا .
قد تتعاظم ردات الفعل على هذه الخسائر لتصل حد الفقدان الذي يرتبط غالبا بوفاة عزيز، إلا أنه لا يقتصر على ذلك، فقد تنشأ مشاعر حزن وأسى، وصدمة وخدر وإنكار وغضب وخوف وقلق وذعر وذنب كردات فعل على الخسارة ، وحين يتعلم الأفراد إدراك تلك المشاعر عندها تكون أولى خطوات الشفاء اللازمة للعيش مع الخسارة.
لقد عايشنا في هذا العام أنواعا مختلفة من الفقدان نذكر منها:
الفقدان الغامض وهو الخسارة التي تحدث دون إغلاق أو فهم واضح للخسارة وغالبًا ما ينتج عنها مشاعر لم يتم حلها. لا يُعترف عادةً ببعض الخسائر الخاصة والخفية التي نواجهها من قبل أصدقائنا وعائلاتنا وبالتالي لا نتلقى منهم أي دعم أو مواساة، مثل فقدان ثقتنا في المستقبل، أو فقدان شعورنا بالسيطرة على حياتنا. كل هذه خسائر قد نحزن عليها، لكن ليس لدينا طقوس أو حتى لغة للاعتراف بها على هذا النحو.
الفقدان الكامن (الخفي) غالبًا ما يأتي مع الخسائر المرتبطة بفقدان الصحة لمن نرعاه أو فقدان العلاقات معهم عندما يتغيرون بسبب المرض. في كل مرة تتدهور فيها حالة الشخص المصاب، يشعر هو ومن حوله بالحزن على هذه التغيرات. معالجة مشاعر الحزن الخفية يمكن ن تقلل من العبء، وتجاهلها يؤدي الى أن تتراكم وتطغى كمشاعر عارمة من الخسارة والأسى والعجز والاكتئاب.
أما الفقدان الاستباقي فيشير إلى مشاعر الحزن لدينا حتى قبل حدوث الخسارة، على سبيل المثال، قد نكون قلقين بشأن فقدان محتمل ونحزن عليه، أو ربما نتوقع المزيد من الخسائر في الدخل وانعدام الأمن المالي. على الرغم من أن أسوأ مخاوفنا قد لا تتحقق، إلا أن توقعها يمكن أن يؤدي إلى مشاعر حزن مشروعة.
ولعل أشد الأسى مرارة وحرقة هو ذلك الناتج عن فقدان أحلام وأمنيات اضطررنا لوأدها بأيدينا، ذلك الأسى غير المنظور والمنكر الذي لا نتعافى منه أبدا.
ما الذي نستطيع فعله في ظل كل ذلك؟ سنحاول تذكير أنفسنا وإياكم ببعض طرق التأقلم والتكيف الصحية:
- أطلق على مشاعرك اسما: عند تسمية مشاعرنا، يمكننا البدء في فهمها وادراك ما يجلبها ومعالجتها. ليست هناك مشاعر صحيحة أو خاطئة، ومع ذلك يجب أن ندرك أننا سنختبر مشاعر مثل الإنكار والغضب والإحباط، وأننا بحاجة إلى الشعور بأعماق ألمنا من أجل التغلب على حزننا. تختلف ردود الفعل على الخسارة وكيف يشعر الناس ويعبرون عن حزنهم اختلافًا كبيرًا. من المهم أيضًا أن نتذكر أن الحزن مسار وليس حدثًا أو سباقًا، ومع الدعم والاستعداد لبذل الجهد، يمكننا الوصول إلى نهايته بأمان.
- المشاعر السلبية مشروعة: نحتاج إلى التعرف على جميع المشاعر والاعتراف بأهميتها دون إصدار أحكام على أنفسنا. إن قمع مشاعرنا أو تجاهلها أو الشعور بالذنب لوجودها لا يسمح لنا باتخاذ خطوات لحلها. وبالمقابل فإن تشجيع أنفسنا ومن حولنا على الحداد على كل الخسائر هو المفتاح للمضي قدما.
- إن رحلة كل فرد مع الخسارة هي تجربة فريدة، لكن الخطوات التالية قد تساعد في الفهم المشترك لرحلة الحداد المرافق للخسارة، وبالتالي تجاوزها بأقل الأضرار: تبدأ الخطوة الاولى بقبول حقيقة الخسارة، ثم معالجة ألم الحداد، ثم التكيف مع العالم بدون الشخص أو الشيء الذي خسرناه، كما علينا البحث عن طريقة للحفاظ على الاتصال الذهني بالمتوفى أو بالخسارة أثناء شروعنا في حيواتنا اليومية.
- الشعور بالامتنان: على الرغم من أن جائحة كوفيد 19 تسببت في قدر كبير من عدم اليقين والخسارة، يمكننا أيضًا أن نجد معنى في الخير الذي ربما جلبته إلى حياتنا مثل روابط أوثق، ووقت للتفكير، وإدراك ما هو مهم بالنسبة لنا وما هي أولوياتنا. إن قضاء الوقت في الكتابة والاعتراف بالأشياء التي نشعر بالامتنان لها مهما كانت بسيطة، يمكن أن يكون تمرينًا بسيطًا ولكنه فعال في رفع منسوب الرضى في نفوسنا.
- الروتين: في وقت تبدو فيه الحياة فوضوية بشكل خاص، فإن الالتزام بالروتين أمر مهم ويضمن أن لدينا مزيجًا من الأنشطة الاجتماعية والبدنية والتعليمية في يومنا هذا. لا يعني الروتين الجمود، ولكنه يمكن أن يوفر إحساسًا بالسيطرة.
- الرعاية الذاتية: إن قيود الوقت لا تزال موجودة، ويمكن أن يؤدي العمل عن بعد، وكذلك الدراسة، ورعاية الأطفال والمسنين، وحتى التفاعلات الاجتماعية إلى جدول زمني محموم، لذا تأكد من أنه لا يزال هناك وقت لترعى ذاتك. إن المشي وممارسة الرياضة والتأمل كلها طرق يمكننا من خلالها أن نكون لطفاء مع أنفسنا.
- تجنب المقارنة: من السهل مقارنة أنفسنا بأفراد يتعاملون بشكل مختلف مع الخسارة، خاصة عندما نشعر بالضعف، يمكن أن يؤدي ذلك إلى استنزاف طاقتنا المحدودة كما يمكن أن يؤدي إلى الاستياء من الآخرين ومن أنفسنا. بدلاً من ذلك، ركز على نقاط قوتك واستراتيجيات التأقلم الخاصة بك. يعد سرد نقاط القوة والقضايا التي تغلبت عليها سابقا طريقة فعالة لإبراز قدرتك على التكيف وتقويتها وبالتالي الاستفادة منها.
- اعتمد على الأصدقاء / العائلة: إن المطلوب منا خلال هذه الجائحة هو التباعد الجسدي وليس الاجتماعي، نستطيع الاعتماد على العائلة والأصدقاء وقت الحاجة.
- اطلب الدعم: الآن أكثر من أي وقت مضى، من المهم الوصول إلى المختصين والحصول على دعمهم والاستفادة من خبراتهم.
لقد مر عام آخر من أعمارنا، لم يكن سهلا على أي منا، تعلمنا منه الكثير عن أنفسنا والآخرين، وترتبت الأولويات في حياتنا، فوداعا عام الجدب بكل أشكاله، وأهلا بعام جديد نأمل أن يكون عام غيث ورخاء وبشرى للجميع.
كل عام وأنتم وأحبابكم بكل خير